
تقول الأسطورة إن المسافر الذي يأكل من شجرة فاكهة الخبز أثناء وجوده على جزر سيشيل، سيعود حتمًا إلى شواطئها الرملية. بما أن هذه الجزر مختلطة الأصول وتضم مزيجًا من الأشخاص والثقافات، فهي تحوي الكثير من الأساطير والخرافات المحلية والتراث الشعبي. الغموض يحيط بكل شيء في هذه الجزر التي جذبني إليها سحرها الذي يخفي روعة لا يمكن أسرها في بطاقات بريدية تستعرض مناظرها الطبيعية.
أول شيء في مسعاي الروحي هناك كان استكشاف جوز الهند البحري الغامض وهي تطرح من نخيل فريد من نوعه لا تجده إلا في جزيرتين فحسب من جزر سيشيل البالغ عددها 115. ثمرة جوز الهند هذه ذات القوام الأملس الجذاب أقرب إلى خيال قديم كما لو أنها وصف من وحي خيال بحار واجه المشقات وقضى عدة أسابيع في البحر شاردًا قبل أن يجد الملاذ على إحدى الجزر. كانت أشجار النخيل هذه عملاقة ومرتفعة للغاية حتى يبدو للناظر أنها تلامس السحاب الرمادي ولكن انحنى قوامها بفعل الأمطار الكثيفة.
يوضح لنا ليروي، مرشدي السياحي، الأمر وهو يبتسم، “اعتاد الأشخاص على الاعتقاد بأن أشجار جوز الهند البحري نمت في غابة في قاع المحيط قبل أن تنخلع وتطفو لأعلى وتستقر مع الأمواج على الشواطئ المحيطة بالمحيط الهندي”. في أوائل القرن 17 كان الصدف العملاق المنجرف على ضفاف الماء يُبادل في شبه الجزيرة العربية مقابل مبالغ طائلة من المال. أما من كان يعثر على قشور منجرفة على الشاطئ في جزر المالديف، كان يؤمر بتسليمها إلى الملك وإلا فسيواجه عقوبة الموت. كان ذلك حتى اكتشف الجنرال البريطاني تشارلز جوردن جزر سيشيل غير المأهولة في عام 1881، ومن هنا تغير مصير هذه الثمرة للأبد. من نظرة واحدة على جوز الهند غريب الشكل هذا، أعلن جوردن أنه قد عثر على فاكهة لا مثيل لها في أي مكان. ومن هنا خلص إلى الاستنتاج الوحيد المقبول بالطبع وهو أنه عثر على جنة على الأرض.
كان اكتشاف جوردن محببًا للمجتمع المحلي ومن ثم حرص على حماية أنواع جوز الهند البحري هذه ليضع حدًا للاتجار في هذه الفاكهة من خلال وضع قوانين صارمة. لنعد بالزمن إلى الحاضر، لهذا السبب جئت هنا إلى محمية فالي دي ماي الطبيعية على جزيرة براسلين. هي واحدة من أصغر المواقع التابعة لمنظمة اليونسكو في العالم، وتخضع لحراسة مشددة من أفراد الأمن ضخام الجثة الذين يجوبون الأراضي في دوريات لضمان عدم سرقة جوز الهند ولسبب وجيه بالطبع لأن الواحدة منها تُقدر بـ 500 دولار. (حتى إن استطعت تجاوز أفراد الأمن، فلا أوصي بحمل واحدة من هذه الفاكهة؛ لأنك ستحتاج إلى رخصة تصدير للخروج بجوز الهند الثقيل هذا من البلاد. ناهيك عن ذكر أن ثمرة جوز الهند يصل وزنها إلى 30 كجم، ولا جدال في أنك ستتخطى الوزن المسموح به للأمتعة.) بصرف النظر عن الحراس اليقظين، فإن التجول وسط هذه الأشجار العتيقة يثير في داخلك شعورًا خاصًا بصدق. ربما هذا بسبب حبي للقصة الرائعة وراءها وليس لأشجار النخيل الغامضة هذه، ولكنني أكاد أجزم أنني استشعرت نسيمًا من السحر في الهواء هناك. هل كان جوردن محقًا في ادعائه؟ بعد مغادرتي للمكان عدت إلى متجر الهدايا في الموقع لمطالعة جوز الهند باهظ الثمن ولوازم السياح الزهيدة التي لا غنى عنها.
منذ اكتشاف جوردن للجزيرة، أصبحت تُعرف مجموعة الجزر الإفريقية بـ “الجنة على الأرض”، وكما هو الحال مع مثيلاتها في المحيط الهندي، بعد مرور سنوات أصبحت ملاذًا لقضاء شهر العسل. جزر سيشيل بشواطئها الرملية البيضاء كانت وجهة شهر العسل المختارة من جورج وآمال كلوني، ودوق ودوقة كامبريدج من بريطانيا. كنت في مسعاي بمفردي وتأملت أنه إذا كانت الشواطئ جيدة بما يكفي لتلبية معايير شواطئ القمة، فهي بالتأكيد جيدة بما يكفي بالنسبة لي.

شاطئ آنس جيورجيت يُعرف بأنه أحد أروع الشواطئ الرملية في جزر سيشيل وتحيط به أجواء قوطية. أوراق الشجر الخضراء الداكنة التي تحيط بهذا الخليج الصغير كانت تتمايل في تناغم مع النسيم وأمواج المحيط المتلاطمة على الصخور بقوة. وفي إضافة لجو الغموض في المكان، يوجد ضباب سماوي يهبط من أعلى التلال ويتبخر عند ملامسته للماء.
لجهلي النسبي بقوى المحيط، ركضت للأمام والسحاب ينكسر من فوقي فيتناثر ماء المطر الذي تكتنز به. غطست لعدة مرات ثم ألقتني الأمواج القوية إلى الشاطئ مرة أخرى بكل رضا وإذعان مني. جلست على الرمال وبدأ ماء المطر يتهادى وأخيرًا ارتفعت الشمس للذروة مخترقة السحب في جموح ليس له مثيل. المميز أكثر في هذا الشاطئ هو أنه كان خاليًا تمامًا من الأشخاص عداي أنا وقلة من المسافرين الآخرين المتوارين من المطر تحت غطاء الأشجار. ويرجع ذلك بشكل محتمل إلى حقيقة أن المجيء هنا يمكن أن يكون لغرض ممارسة نشاط معين بما في ذلك ركوب القوارب والتنزه سيرًا على الأقدام. هذا ما لم تكن، مثلي، مقيمًا في منتجع كونتانس ليموريا الذي يضم الشاطئ كجزء من أراضيه. يضم هذا المنتجع 105 غرف فحسب و402 موظف ولهذا يحق له أن يقدم نفسه باعتباره منتجعًا فاخرًا حصريًا. لا يوفر المنتجع مستويات لا مثيل لها من الخدمة فحسب (بفضل نسبة الموظفين إلى الضيوف)، بل هو أيضًا موطن للسلاحف البحرية صقرية المنقار وتجارب تناول الطعام من فئة خمس نجوم.

لدى توقفنا عند مدخل الفندق، كان معظم الراكبين في سيارتي مبهورين بالمنظر البديع لملعب الجولف المكون من 18 حفرة في منتجع ليموريا حيث كانت ممراته تتلألأ بحبات الندى. ولأنني أجهل الجولف، كان هناك شيء أكثر إثارة للاهتمام بكثير على اليمين. قبل بوابات الفندق مباشرة، كان هناك بنغل (مبنى شعائري) مهيب رمادي اللون يقبع في عزلة تامة. هذه الشقوق على الجدران والنوافذ المفقودة كانت تثير في نفسك شعورًا غريبًا، كما لو أن الدار مهجورة وتبدو عليها آثار الدمار أو إعادة التجديد غير المكتملة.
بينما أتفكر في سبب عزلة هذا المبنى، التقطت عيناي منظر رؤوس عرائس بلا جسد مغروسة في عصا. كانت إحدى عينيّ مفتوحة بشدة كأنها تعكس صرخات بداخلي، بينما كانت الأخرى منغلقة في ازدراء. قبل أن يبدر مني رد فعل، خرجت عرائس سحر الفودو من المشهد ونحن أمام البوابات إذ اندفعنا حول المسارات المتعرجة للوصول إلى الردهة.
كانت توجد شموع عمدانية كبيرة مصطفة على المسار المؤدي إلى الأبواب الكبيرة المصنوعة من خشب الماهوجني والتي ظلت مغلقة بإحكام حتى جاء الموظفون. دق الناقوس بصوت مرتفع والأبواب الثقيلة تُفتح على ابتسامة تزين وجوه مجموعة من الموظفين الذين قالوا بوتيرة واحدة “مرحبًا في الفردوس”. دون مبالغة، لا يمكن إنكار أن المشهد أمامنا كان أقل من اليوتوبيا المعهودة في التراث القديم.

ومن فوق الردهة الداخلية/الخارجية المحاطة بأوراق الشجر الكثيفة، كانت صقور العوسق تحلق وطيور الطاووس تتجول على صخور قريبة. كانت الردهة تطل على مسبح وإذا أطلت النظر وراءه فسترى مشهد الشاطئ الرملي الأبيض والمحيط.
قالت مضيفة ودودة تُدعى آليونا وهي تدلني إلى غرفتي، “وفقًا للتراث الشعبي، كانت جزيرة ليموريا حيث يعيش الناس والطبيعة في تناغم مثالي قبل أن تغرق في قاع المحيط الهندي. وسعيًا لإبقاء الأسطورة قيد الحياة، ننشئ التوازن بين الطبيعة والبشر في المنتجع”. شهادة على صدق ذلك الكلام، كان كونستانس ليموريا أول منتجع في جزر سيشيل يتلقى جائزة جرين جلوب ويستمر في كونه أحد رواد المحافظين على البيئة من بين المنتجعات المجاورة والمجتمع المحلي. استراحت عيناي لرؤية مظاهر “الحفاظ على الكوكب” حيث كان من ضمن مبادرات الفندق الداعمة للبيئة هي الاستعاضة عن زجاجات المياه البلاستيكية في جناحي بزجاجات زجاجية قابلة لإعادة الاستخدام. كانت هناك شوكولاتة داكنة محلية الصنع موضوعة بشكل شاعري في الجناح، وما إن تناولتها انفتحت شهيتي.
‘أوراق الشجر الخضراء الداكنة التي تحيط بهذا الخليج الصغير كانت تتمايل في تناغم مع النسيم’
يتضمن فندق ليموريا مطعمًا متعدد الثقافات اسمه “ذا نست” يقدم أطباقًا شهية المذاق معروضة ومنظمة بإبداع. أول وجبة كانت سلطة من فاكهة تبدو مثل البطيخ مقدمة بشكل متناسق وأنيق. ومع ذلك، بعد بضع قضمات أصابني الذهول من المذاق الغني بالكربوهيدرات والمشبع لهذه الفاكهة البيضاء. تبين أن هذه الفاكهة المجهولة هي في الحقيقة فاكهة ثمرة الخبز. كانت أشجار ثمرة الخبز (حازت على اسمها الذي يناسبها فعلاً استنادًا إلى اتساق محتوى النشا فيها) تُجلب إلى جزر سيشيل إلى جانب مجموعة من السلع وأغراض التراث الشعبي من حول العالم من قبل المستوطنين الأوائل لهذه الجزر. بقدر ما كانت شهيتي تدفعني لتناول المزيد، لم أستطع منع نفسي من تناول وجبة ثانية من الفاكهة.
متعت براعم التذوق لدي بطعام فاخر آخر بعد يومين أثناء الجلوس تحت الشمس على شاطئ في ماهي. رأيت الرجل المسؤول في كشك جوز الهند وهو يقطع جوز الهند بالسكين بمهارة وأعطاني جوز هند أخضر تجرعت عصارته بنهم. كنت أرشف العصارة بينما أشاهد الأطفال المحليين وهم يلعبون كرة القدم على أنغام أغاني الهيب هوب الكلاسيكية التي تخرج من مكبرات صوت تعمل بالبلوتوث. على النقيض من شواطئ براسلين الهادئة، كانت شواطئ ماهي تضج بالحياة وهذا يروق لي أكثر. يحق القول إن جميع الشواطئ في جزر سيشيل مفتوحة للعامة، لذا هنا على الجزيرة الرئيسية من الممكن لأي شخص الانخراط مع السكان المحليين حتى بداخل منتجع الخمس نجوم الخاص بك.

هذا المنتجع اسمه إيفيليا وهو أحد فنادق كونستانس، ويمتد على مساحة تزيد عن 120 هكتار ويرحب بالعائلات (أو الأزواج الذين يجدون بعض الملل بمفردهم) ويقدم مجموعة متنوعة من الأنشطة الرائعة. اخترت بقعة لأمارس فيها السنوركل بعد الظهيرة فتوجهت إلى الشاطئ مرورًا بالأشجار الخطمية النابضة بالحياة التي كانت تصطف على المسار بطريقة متناسقة. عند هذه اللحظة، وددت أن أستشعر روح الجزيرة فقطفت زهرة جديدة من الأرض ووضعتها خلف أذني.
سألني مساعد كشك الرياضات المائية، “هل تعلم ماذا يعني ذلك؟” وهو يشير إلى الزهرة على شعري.
”ممم…” عصرت مخي لأجد أي إجابة وإن كانت تافهة.
ولكن قلت في النهاية، “لا”.
ضحك، وقال، “هذا يعني أنك ستلتقي بشخص مميز لا محالة”. بشكل عفوي قررت أن أرحب بالشعاب المرجانية بالزهرة في شعري فتركتها وتبخترت دخولاً إلى مياه المحيط مرتديًا زعنفتين في قدميّ وأنبوبة تنفس السنوركل في يدي. وأنا أسبح بجانب مجموعة الأسماك بالكامل التي ظهرت في فيلم الكرتون البحث عن نيمو، بصرف النظر عن نيمو، كانت الزهرة الخطمية تطفو على المحيط وتبقى لي استكشاف آخر مظهر من مظاهر التراث الشعبي في جزر سيشيل.
عندما انتهت الليالي الخمس على جزر سريول، أقررت أنني استمتعت بشدة في مقابل مبلغ زهيد؛ حيث أيقظت بداخلي رغبة شديدة في العيش على الجزيرة ما جعل عودتي إلى المدينة أمرًا أقرب إلى المستحيل. جزر سيشيل ليست رائعة في صميمها فحسب بل إنها أيضًا حافلة بالأنشطة والحياة والشواطئ الرائعة. إذا كنت تعشق الغموض، فإن الأساطير المتأصلة للجزيرة هي هدية مثالية لا حدود لها لك مهداة إليك. بعد مرور أيام جلست أحلم بطرق أعود بها إلى سيشيل، وتساءلت إن كانت أسطورة ثمرة الخبز على حق على الإطلاق.
أتفكر في السفر؟ للحجز في رحلة، يُرجى الاتصال بالرقم 800 DNATA أو زيارة الموقع dnatatravel.com